هل العجز الهائل والمخيف في صناديق التقاعد حقيقة؟ أم مبالغة من قبل المسؤلين؟

العجز المسجل حاليا في صناديق التقاعد 14.2 مليار دينار ويفوق مجموع الدين العام  البالغ 12 مليار دينار بنسبة 20 %

بقلم: إبراهيم خليل إبراهيم *

في المقدمة التي سبقت هذا الجزء الأول المنشورة الإسبوع الماضي، وعدنا القارىء أننا سوف نجيب على ثلاثة أسئلة محددة بشأن أزمة تمويل صناديق التقاعد، بحيث يتناول كل مقال سؤالا محوريا من التسآؤلات المطروحة على حدى وبشيء من التفصيل.

والسؤال الذي نغطيه في هذا الجزء الأول هو: هل أن العجز المذكور في هذه الصناديق حقيقي، أم مجرد تهويل وتضخيم من أجل أن تتقبل الناس حزمة من الإصلاحات القادمة؟ جميع ما سوف يرد في هذا المقال هو إجابة لهذا السؤال فقط وليس لأية تسآؤلات أو قضايا أخرى تخص صناديق التقاعد.

الجواب للأسف وبشكل مباشر، نعم هذا العجز الإكتواري الضخم في صناديق التقاعد هو حقيقة أكيدة، وهو ليس وليد الصدفة، وإنما تراكم ونمى عبر السنين ووصل إلى مستويات بالغة التحدي نتيجة التأخر في إدخال الإصلاحات الضرورية خاصة في العقدين الأخيرين. بل سوف نثبت في ختام هذا المقال أن العجز التمويلي الحالي هو أكبر مما طرحه معالي الوزير في مداخلته البرلمانية.

ولإثبات صحة رأينا هذا، سوف لن نحتاج إلى الدخول في الأرقام والإحصائيات التي تعلنها الهيئة العامة للتأمين الإجتماعي كثيرا، بل نكتفي بالتدليل على ذلك مهنيا من خلال بعض مؤشرات الصناعة المالية وصناديق التقاعد وما يتعلق بها من حقائق في هذا الشأن. وتجنبا للإطالة فإننا نكتفي بالإستشهاد بهذه النقاط الأربع لنؤكد أن هذه العجوزات حقيقية:

أولا، أن الهيئة لا تستطيع أن تبني أرقامها وتقاريرها المحاسبية كما تشاء هي بشكل منفصل عن العالم، بل أن شركات التدقيق الدولية هي التي تطبق معايير محاسبية معتمدة دوليا على معلومات وتقارير الهيئة. إذ تخضع  صناديق التقاعد بمختلف أنواعها ولاسيما ذات المزايا المحددة (defined benefit pensions) التي تمول سنويا من ميزانية الجهة المسؤلة عنها سواء كانت الحكومة في منطقتنا (ام شركة في حال الحديث عن أنظمة التقاعد في البلدان المتطورة التي تقدم فيها الشركات هذه المزايا بشكل مباشر لموظفيها) لعملية حسابية إكتوارية معقدة قبل أن تقبل شركات التدقيق العالمية مراجعتها والتصديق عليها.

وتعود خلفية هذا التشدد المحاسبي مع صناديق التقاعد إلى حقبة السبعينات والثمانينات عندما وصل العديد من صناديق التقاعد الأمريكية والأوروبية على وجه التحديد إلى مرحلة النضج (والتي تعني فنيا تساوي عدد المساهمين مع عدد المتقاعدين في نظام التقاعد)، وخروج ملايين العاملين المساهمين في تلك الصناديق إلى التقاعد، إذ بدأت تلك الصناديق تشهد تدفقات مالية خارجة (Out Cashflow) على شكل مرتبات تقاعدية يتضاعف مجموعها الإجمالي كل بضعة أعوام.

منذ ذلك الوقت، بدأت التزامات معاشات التقاعد ذات المزايا المحددة تمثل أكبر التزام مالي منفرد للإدارات الحكومية والشركات التي تقدمها، الأمر الذي دفع شركات المحاسبة والتدقيق بإعطاء أهمية أكبر للتقديرات الفنية والمخصصات المالية المعنية براوتب المتقاعدين كونها إلتزامات قانونية تمثل نسبة كبيرة من موازنة المصروفات والتي يجب أن تكون ممولة بمستويات كافية.

وقد شكل الشد والجذب بين الحكومات والشركات المسؤلة عن توفير مزايا التقاعد من جهة وشركات التدقيق المحاسبي من جهة أخرى طيلة تلك الفترة حول كيفية حساب وإعتماد الإلتزامات التقاعدية في الموازنات العامة، الأمر الذي خلق حراكا لدى الهيئات المحاسبية مثل المجلس الدولي للمعايير المحاسبية (IASB) الذي يصدر المعايير الدولية للتقارير المحاسبية (IFRS) وكذلك المجلس الدولي للمعايير المحاسبية للقطاع العام (IPSAS) والمجلس الأوروبي للمعاير المحاسبية للقطاع العام (EPSAS) للوصول إلى إطار مهني شامل لحساب تكلفة وإلتزمات الوعود التقاعدية للموظفين.

ومنذ العام 1980 أصدر المجلس الدولي للمعايير المحاسبية المعيار رقم IAS 19 المعني بحساب  وإعتماد والإفصاح عن مكافآت الموظفين المؤجلة والإلتزامات التقاعدية والذي أجرى عليه حتى اليوم 20 تحديثا كان آخرها اوائل العام الماضي. من جانبه عكف المجلس الدولي للمعايير المحاسبية للقطاع العام في سنة 2006 على تطوير معايير محاسبية خاصة بالقطاع العام تحاكي المعايير الدولية للتقارير المالية (IFRS) التي تم تطبيقها لعقود سابقة في القطاع الخاص، وأصدر في العام 2008 المعايير رقم IPSAS 25, 32, 33, 25.43 and 25.47. وفي العام 2016، وبناء على بعض التعديلات في IFRS تم إصدار المعيار رقم IPSAS 39 ليحل محل المعيار IPSAS 25 حيث أبدى المعيار الجديد تشددا أكثر خاصة فيما يتعلق بتأجيل إعتماد التغييرات في صافي الإلتزامات وطريقة إعتماد الفائدة الصافية لأنظمة التقاعد ذات المزايا المحددة.

بموزاة ذلك، شكل الإتحاد الدولي للمحاسبين (IFAC) وشركات المحاسبة العالمية الست الكبرى بالإضافة إلى منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي تحالفا في العام 2014 تحت شعار (accountability now) من أجل زيادة الوعي حول تطبيق مبادىء المجلس الدولي للمعايير المحاسبية للقطاع العام، بما يسمح إيجاد بيانات ومؤشرات شفافة وقابلة للمقارنة لمحاسبة الحكومات خاصة من الجهات النقابية والتشريعية والمواطنين، وذلك ضمن الجهود المستمرة لإصلاح أنظمة التقاعد.

في جوهرها، إهتمت هذه المعايير بالتحول الهام من الطرق الحسابية المبنية على أساس نقدي (أي وصول النقد وتسليمه فعلا) إلى طرق الحساب الإكتواري التي تتعامل مع الإلتزامات التقاعدية على أساس الإستحقاق بغض النظر عن وقت إستلام ودفع الأموال بالفعل، بما يترتب على ذلك من مطابقة ضرورية بين الأصول والإلتزامات، بمعنى آخر النظر إلى صندوق التقاعد كوضع مالي يجب أن يكون ممولا عن كل شخص مشارك في نظام التقاعد، ويوضع مجموع تلك الإلتزامات مخفضة إلى القيمة الحالية في خانة الإلتزامات في الميزانية العامة. كما تحدد هذه المعايير ايضا الطرق والمبادىء التي تقاس بها هذه الإلتزامات وتكلفتها وأسس إعتمادها  والتعامل مع العجوزات والفوائض والفوائد والخسائر في إستثمار الأصول والتسويات وكامل حركة الإلتزامات المالية خلال السنة المحاسبية.

كما أن هذه المعايير ولدقتها فإنها لا تنظر إلى إلتزامات صناديق التقاعد ذات المزايا المحددة فقط والتي يدعمها إتفاقيات عمل ودساتير ومراسيم حكومية، بل تدفع للتعامل بنفس أسس الإستحقاق والطرق الإكتوارية حتى بالنسبة لصناديق التقاعد ذات المساهمة المحددة (defined contribution pensions) والتي لا تمثل إلتزاما مدى الحياة على كاهل الحكومة أو الشركة المعنية (إذ المفروض أن تلتزم فقط بكامل المساهمة عن جميع منتسبي نظام التقاعد للسنة المحاسبية الحالية)، إنما هذه المعايير ترى أن الإلتزام بالمساهمات المستقبلية يقع ضمن الإلتزامات الإيجابية (constructive obligations) وهو التزام بالدفع ينشأ عن السلوك والنية والسلوك الماضي وليس العقد وقد يلزم إظهاره في الميزانية العمومية.

هذه المعايير المحاسبية وحدها هي السائدة والمعتمدة عالميا ولا تملك حكومة أو شركة ما خيار عدم الإمتثال إلا إذا كانت تستطيع أن تنفصل كليا عن الأسواق العالمية، وذلك لسببين الأول، بما أن صناديق التقاعد تتعامل بأدوات أسواق رأس المال كالسندات والاسهم وصناديق الإستثمار المتداولة والإستثمارات البديلة والتي يجري عليها تداول يومي، فإنها تحتاح إلى تقييمات منتظمة لا يمكن حسابها وإعتمادها في الموازنة إلا بإستخدام المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية IFRS، والثاني أن هذه الصناديق إذا ما ارادت التعامل مع جهات دولية أو مؤسسات مالية أخرى، فإن هذه المؤسسات لا تعتمد إلا هذه المعايير المذكورة، وقد تعطى الحكومة أو الشركة التي لا تمتثل فترة لا تزيد عن سنة أو سنتين للإمتثال. والمعروف عندنا في دول الخليج كدول تتعامل مع المعايير المحاسبية البريطانية والأمريكية وكذلك نتعامل مع اسواق رأس المال في هاتين الدولتين بالإضافة إلى مختلف الأسواق الدولية الأخرى فإنه لا مناص من تطبيق معايير IFRS، التي هي مطبقة بالفعل في جميع مؤسسات التقاعد الحكومية بدول مجلس التعاون حسب إطلاعنا. وقد تكون بعض المؤسسات لم تكمل التحول بعد بشكل كامل إلى هذه المعايير المحاسبية في كل جوانب عملياتها، لكن الغالبية العظمى ممتثلة، وأن الهيئات المحاسبية الوطنية كالهيئة السعودية للمحاسبين القانويين (SOCPA) مثلا والتي تأسست بمرسوم ملكي في العام 1992 والتي من ضمن مسؤلياتها مراجعة وتطوير المعايير المحاسبية المعمول بها في المملكة العربية السعودية تقوم بتطوير معاييرها بناء على مبادىءIFRS  وفي حال عدم وجود المعايير الوطنية فإنها تطبق المعايير البريطانية والأمريكية المعتمدة. والمعروف أيضا بالنسبة للمراجعة الإكتوارية في أجهزة التأمينات الإجتماعية الخليجية أنها تجرى بشكل دوري ومستقل بقوة القانون الخاص بكل جهاز تأميني خليجي.

ثانيا، إن قيام أي حكومة بتضخيم الإلتزامات المالية في حساباتها الوطنية هو بمثابة إطلاق النار على نفسها لأن ذلك يؤثر سلبا ومباشرة على تصنيفها الإئتماني من قبل مؤسسات التصنيف العالمية.

 مؤسسات التصنيف العالمية الثلاث الكبرى وهي “ستاندرد آند بورز” و”موديز” و”فيتش” ترى بأن إلتزامات أو عجوزات التقاعد على المؤسسات الخاصة أو الحكومية هي إلتزامات شبيهة بالدين وتحسبها ضمن الالتزامات المالية في الموازنات، لذا فإن هذه العجوزات تضر بالتصنيف كلما كبر حجمها. ولأن البحرين تحتاج لأسواق الدين العالمية بإستمرار فإنها بالتالي تحتاج إلى تصنيف جيد. أما تسجيل هذه العجوزات الضخمة فإنه لا يساعد التصنيف الإئتماني ويضاعف سعر الإستدانة على المملكة. والجدير بالذكر أن هذه العجوزات تؤثر على التصنيف الإئتماني لصناديق التقاعد ولتصنيف البلد نفسه، وبالعكس أيضا فأن التصنيف الإئتماني للبلد هو الآخر يؤثر على تصنيف الصندوق والمؤسسات المالية التي تتبع الدولة.

ثالثا، ينبغي أن ندرك أن التأمينات الإجتماعية هي إبنة الإقتصاد الوطني وصنيعته، وأن كلاهما يتأثر بالآخر تأثرا شديدا. إذا ضعفت صناديق التقاعد وتورمت عجوزاتها فإن وجعها يصل إلى جسم الإقتصاد الوطني، إما من حيث إضطرار الحكومة لضخ أموال إضافية لإعادة رسملة الصناديق (على حساب الإستثمار في مشاريع التنمية وتحفيز النمو) وإما من حيث التصنيف الإئتماني كما أشرنا سالفا. وبالمقابل فإن الإقتصاد الوطني البطيء يقلل من عدد الوظائف الجديدة ويحيل ألوف الموظفين على التقاعد المبكر ويسبب إنخفاض عوائد الإستثمار، وجميعها عوامل تسهم مباشرة في تدهور الوضع التمويلي لصناديق التقاعد. أما الإقتصاد القوي الذي يملك إيرادات جيدة ومستدامة وإحتياطات بمستويات صحية ونمو ديناميكي، فإن ذلك يقلل من وجع صناديق التقاعد ويحسن إستدامها طبقا للمؤشرات الدولية مثل (مؤشر ميرسر العالمي لصناديق التقاعد) حتى في ظل وجود العجوزات بسبب الضمان الحكومي.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هناك ما يشبه بالعلاقة الطردية عالميا بين مستويات الدين العام بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي للدول وبين مستويات عجوزات صناديق التقاعد المسجلة في موازناتها، ربما بسبب تشابه طبيعة حجم الإلتزامات وأمدها الزمني.

 وإذا ما نظرنا للوضع البحريني، فإن العجز المسجل حاليا في صناديق التقاعد هو 14.2 مليار دينار، أي بما يفوق الرقم الكبير لمجموع الدين العام  للمملكة (وهو 12 مليار دينار بنسبة   %93.4 من اجمالي الناتج المحلي) بنسبة تصل تقريبا الى 20%.

رابعا، أزمة الوضع التمويلي لبعض صناديق التقاعد في دول المنطقة ليست وليدة اليوم، والقريبون من قطاع التقاعد وشركات المحاسبة على علم بها منذ سنين.

 أما الآن بعد أن صرح بها المسؤلون عن هذا القطاع بالأرقام التفصيلية، فإن المحلل للوضع التقاعدي لم يعد بحاجة للديبلوماسية في تناول أداء وأرقام صناديق التقاعد المحلية.

ويكفي للتدليل على تدهور الوضع المالي لهذه الصناديق النظر فقط إلى مؤشر داخلي واحد وهو المعروف بمؤشر نسبة الإعتماد (dependency ratio) وهي نسبة الموظفين الحاليين المساهمين في الصندوق مقارنة بعدد الموظفين المتقاعدين حاليا والذين تمول رواتبهم من مساهمات الموظفين العاملين. إذا ما علمنا أن أوروبا، ورغم نسبة الشيخوخة التي تعاني منها مقارنة بمنطقتنا، تتعامل اليوم صناديقها التقاعدية ذات المزايا المحددة مع نسبة 1:4 (بمعنى أن كل 4 موظفين حاليين يدفعون راتب تقاعدي لشخص واحد)، ويتوقع أنها ستصل إلى النسبة الكارثية وهي 1:2 بعد جيل واحد، أي في العام 2050. في حين أن صندوق التقاعد للقطاع الحكومي في البحرين قد وصل الآن بالفعل إلى نسبة تقترب من 1:1 إذا ما أضفنا عدد المستحقين عن المتقاعدين المتوفين (10,111) بمجموع المتقاعدين الأحياء (34,796) ومجموعهما  44,907 وقارناه بعدد الموظفين العاملين الذين يساهمون بالإشتراكات وعددهم  46,000 موظف.

مما سبق من مؤشرات يتأكد جليا أن مشكلة تمويل صناديق التقاعد عندنا في البحرين هي أزمة حقيقية وواقعية، بل أجزم أنها واقعا أكبر مما نشر في الصحافة  مؤخرا خاصة فيما يتعلق بالصندوق الحكومي، لان الارقام التي طرحها سعادة الوزير هي أرقام العام 2018، ونحن الان في نهاية العام 2019 ولا تنسوا ال 8000 موظف حكومي الذين خرج جميعهم على التقاعد الإختياري بتكلفة 295 مليون دينار، منها 70 مليون دينار تحملتها الهيئة العامة للتأمين الإجتماعي، ناهيك عن تسبب التقاعد الإختياري في إحداث طفرة خطيرة (بمعنى العبىء الكبير من الناحية المالية) في عدد المتقاعدين من الصندوق الحكومي بواقع 40%